جذبت المسلسلات التركية اهتمام الباحثين والصحفيين ورجال الدين في العالم العربي، نظراً لشغف المشاهد العربي بكل ما يخصها من تفاصيل. في آب 2008 تابع حوالي 85 مليون عربي الحلقة الأخيرة من المسلسل التركي "نور" ، الذي عرضته قناة MBC وكانت أول من بدأ بعرض الإنتاج التركي. المسلسلات التركية ما زالت تحتل أوقات الذروة في جدول برامج المحطات العربية، حتى بدأت القنوات بالتنافس الشديد لجذب عدد أكبر من المتابعين من خلال بث المزيد من الدراما التركية. لعل التأثيرات الثقافية والاجتماعية احتلت اهتمام الباحثين في المركز الأول، إلا أن التأثيرات السياسية والاقتصادية لهذه الظاهرة لا يمكن تجاهلها كذلك.
فلا بد من الاعتراف أن المسلسلات التركية عكست للشعوب العربية حزمة من الأفكار والعادات والتقاليد التي في غالبها تشابهت مع طبيعة المجتمع العربي، وبعضها الآخر أثار حفيظة العديد من رجال الدين وغيرهم. فالتاريخ المشترك بين العرب والعثمانيين ظهر جلياً في بعض التفاصيل الحياتية، والتي أرجعها البعض أيضاً للعولمة وتهجين الشعوب وغيرها من مؤثرات الثقافة، إلا أن الاعتقاد بأن المسلسلات التركية قد غيرت أو تغير في جوهر المجتمع العربي فهو أمر مبالغ فيه. والدليل على ذلك هو حاجة المنتجين لإعادة تأطير المسلسلات وتعريبها، بالإضافة إلى أن هذا الاعتقاد يقدم الشعوب العربية وكأنها متجانسة بشكل تام وهذا لا يعكس الواقع، فالشعوب العربية تتباين في لهجاتها وتدينها وبعض عاداتها وتقاليدها.
ومن ناحية أخرى لعل ما لا يمكن تجاهله أيضاً، هو استخدام تركيا لهذه الظاهرة للترويج لنفسها دبلوماسياً، كالجسر الواصل بين أوروبا والشرق الأوسط. وحاجة الـ MBC ، بصفتها من أضخم الشركات الإعلامية في العالم العربي، لتضخيم هذه الظاهرة لتحقيق منافع تجارية. حيث أن سوقاً كالوطن العربي يوفر للشركات 22 دولة ناطقة بنفس اللغة هو حالة نادرة، فالعولمة والمعلوماتية الصادرة عن وسائل الإعلام لا تسعى لتشكيل المجتمعات والثقافة فحسب، بل تعيد تشكيل القوى الاقتصادية والسياسية بهدف الربح.
ثقافة رائجة وعلاقات دبلوماسية
بدأت رحلة الدراما التركية في العالم العربي منذ العام 2007، عندما عرض لأول مرة مسلسل "إكليل الورد"، وتلاه مسلسل "سنوات الضياع" في شباط 2008. ومن ثم ظهر "نور"، والذي كان يعرض بين البرنامج الحواري الشهير "أوبرا وينفري" وفيلم المساء على MBC4. هذا المسلسل الذي أذيع لأول مرة في تركيا عام 2005 ولم يلقَ نجاحاً في بلده الأم، تحول إلى هوس منتشر في مختلف الدول العربية، فتم تحريره ودبلجته باللهجة السورية المحكية وحذف بعض المشاهد الإيحائية التي لا تتناسب وطبيعة المجتمعات العربية المحافظة.
لعل من أهم أسباب انتشار هذا النوع من المسلسلات هو الطابع الاجتماعي الذي تعكسه، وفحوى العلاقات الأسرية التي تجمع الأفراد في المسلسل والتي تشبه إلى حد كبير واقع المجتمعات العربية. بالإضافة إلى ذلك لا يمكن إنكار دور اللهجة السورية المألوفة في العالم العربي، واستبدال اسماء الشخصيات التركية بأسماء عربية مما سهّل وصول هذا المنتج لعدد أكبر من المشاهدين. الدليل على ذلك، هو النجاح الذي حققته المسلسلات التركية مقارنة بالمسلسلات المكسيكية التي اجتاحت القنوات العربية في التسعينيات من القرن الماضي مثل "كاسندرا" و "روزاليندا" وغيرهما. فقد تمت دبلجة المسلسلات المكسيسكية باستخدام العربية الفصحى وحافظت الشخصيات على اسمائها المكسيكية. عدا عن اختلاف العادات والتقاليد المكسيكية تماماً عن العربية. فالدبلجة العربية طغت على كل الاختلافات في التفاصيل وقرّبت المشاهد العربي من المسلسل التركي، الذي أصبح شبيهاً بأي مسلسل سوري من إنتاج عربي. وبالإضافة إلى كل الأسباب التي ذكرت سابقاً، لا بد أن تاريخ الدولة العثمانية والدين الإسلامي الذي يعد الأكثر انتشاراً في الوطن العربي وتركيا أيضاً، يلعب دوراً مؤثراً في إنجاح هذه المسلسلات.
وفي ظل الجدل القائم حول المسلسلات التركية في الوطن العربي خرجت العديد من الشائعات والقصص، التي لم تؤكدها أي جهة رسمية حول حدوث حالات طلاق في السودان والخليج العربي وسورية بسبب مطالبة النساء لأزواجهن بمزيد من الرومنسية في علاقاتهم الزوجية في محاولة لنقل القصص التركية الخيالية حول الحب والعلاقات الى الحياة الواقعية. ومع عدم وجود أي اثبات حول هذه الحوادث، برزت شكوك حول التأثير الفعلي لهذه المسلسلات على البيت العربي. وولدت كذلك أسئلة حول آلية الترويج المتبعة والتي قد تكون هذه الشائعات جزءاً منها.
ولعل من أكثر المشاهدات تطرفاً، هو استخدام أبطال هذه المسلسلات للترويج لفعاليات ومؤتمرات عربية. بالإضافة لاستضافة هؤلاء الأبطال، الذين حولهم العالم العربي إلى نجوم في أشهر المهرجانات وأكثر الإعلانات التجارية رواجاً. بالإضافة إلى تسويق موسيقى المسلسلات كنغمات للهواتف المحمولة، ودفع ألاف الدولارات على مسابقات تقدم تذاكر سفر إلى تركيا كجوائز، وغيرها الكثير من المشاهدات التي حولت ثقافة المسلسل إلى ثقافة ربحية وترويجية.
وعلى الرغم من أن المشاعر، وخصوصاً بين الرجل والمرأة، هي بطبيعتها متشابهة في كل المجتمعات، إلا أن تفاصيلها تتأثر بالخلفية الثقافية والمجتمعية للفرد. ولعل تعريب مضمون هذه المسلسلات لم يكن كافياً لتناسب المجتمع العربي، فبعض المشاهد التي أثارت حفيظة رجال الدين، والتي تحمل إيحاءات جنسية وتقدم المشروبات الكحولية كجزء طبيعي من الحياة اليومية في بيت العائلة، جعلت من الهجوم على الدراما التركية والقنوات التي تعرضها هجوماً شرساً، وصل إلى حد تحريم مشاهدتها لما فيها من ”مخالفات“ لتعاليم الدين الإسلامي.
وبالتوازي مع الجدل القائم في الوطن العربي حول المسلسلات التركية كان هناك نقاش مشابه في تركيا نفسها. فقد اتهم البعض في تركيا المنتجين بعدم المصداقية في عكس حقيقة المجتمع التركي وتفاصيل حياته الاجتماعية، إلا أن أحد المنتجين الأتراك، عرفان شاهين، قال في مقابلة تلفزيونية وبالتحديد عن مسلسل "فاطمة" إنه يعكس الواقع تماماً وإن ما يحدث في الواقع يستحق أن يعرض على التلفاز من خلال المسلسلات.
نجحت المسلسلات التركية أيضاً بتشكيل منافس قوي للإنتاج الفني العربي، فهي بطبيعتها أكثر حيوية في عرضها لمواقع التصوير الحقيقية على عكس المسلسلات العربية التي تعتمد على أستوديوهات مجهزة للتصوير. وبلغ الهوس بهذه المواقع التي تظهر في المسلسلات التركية، بأن تم تحويل بعضها إلى مناطق سياحية روادها من العالم العربي، حيث تشير الإحصاءات إلى ارتفاع نسبة السياحة إلى تركيا للعام 2009، بنسبة 21% من منطقة الإمارات العربية المتحدة وبنسبة 50% من المغرب العربي.
ومن جهة أخرى لعبت تركيا خلال العقود الماضية دوراً فاعلاً في السياسات المتعلقة بالشرق والأوسط، وحاولت تقديم سياساتها كجالبة للعدل والسلام للمنطقة من خلال عدة مواقف تسجل لها، في العراق وفلسطين ولبنان وغيرها. وعلى الرغم من أن محاولات تركيا في تقديم حلول سياسية عادة ما تبوء بالفشل، إلا أن ذلك منحها رصيداً إيجابياً كحلقة وصل بين العرب والغرب. ولربما تعمل تركيا على ترسيخ هذه الصورة بسبب فشلها حتى الآن بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. من ناحية أخرى تعمل تركيا على تسويق نفسها في العالم العربي دبلوماسياً كمكافحة للسياسات الامريكية الداعمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من أن علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل وأمريكا لم تتأثر يوماً بمجريات الأحداث السياسية في المنطقة.
لعل الحديث عن هذه الظاهرة بأبعادها المختلفة يطول ويختلف حسب القضايا المتعلقة بها. لكن مما لا شك فيه، هو أن الربح المادي الذي يسيّر معظم القنوات العربية وشركات الإنتاج، بدأ باتخاذ قوالب متعددة تؤثر على المجتمعات والسياسات والعلاقات الدبلوماسية بين الدول، وهذا لا ينطبق فقط على الوطن العربي بل هو حال المجتمعات في كل مكان تبعاً لتعدد مصادر المعلومات وتوفر سيل ضخم من القنوات التي تحمل رسائل متنوعة وبكل اللغات.